ثقتنا فى القيادة ليس لا حدود
بين يدي الموضوع قالوا في القاموس أنها : ( الإحكام في الأمر ) ، ولك أن تتأمل في أحد تكويناتها وهي كلمة ( الوثاق ) و هو القيد أو الحبل يُشد به الأسير والدابة !! ، وفي القاموس المحيط : وثق بمعنى ائتمن !!! والوثيق أي المحكم !!! . ومن هنا تأتي خطورة المصطلح !!
فالثقة اصطلاحاً : هي والاطمئنان والائتمان وما يتبع ذلك من تصديق وانقياد !!! ، و هذه الكلمات الخطيرة !! هي ما ينبغي أن يستحضره الأخ العابد العامل لدين الله عز و جل وقد ارتضي لنفسه السير في ركب الحركة الإسلامية !! قبل أن يعطي الله العهد والميثاق علي خوض غمار التحدي والسير في طريق الجنة بما ارتضاه لنفسه من فهم وعمل !! يقول الإمام حسن البنا في الثقة (الركن العاشر) من أركان البيعة ما يلي: (وأريد بالثقة اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه، اطمئنانا عميقا ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة، )فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما.
ومن تعريف الإمام للثقة يتضح أنها اطمئنان عميق، ولفظ الاطمئنان يشيع في النفس السكينة والهدوء، ولأنه اطمئنان عميق فهو يلاحق كل بذور القلق أو بقايا الشك في النفس فيدمغها فإذا هي زاهقة، فلا يبقى في النفس إلا هذا الاطمئنان والقائد جزء من الدعوة ولا دعوة بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب )فأولى لهم، طاعة وقول معروف(. وللقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية، والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعا، والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات، ولهذا يجب أن يسأل الأخ الصادق نفسه هذه الأسئلة ليتعرف مدى ثقته بقيادته:
1- هل تعرّف إلى قائده من قبل ودرس ظروف حياته؟
2- هل اطمأن إلى كفايته وإخلاصه؟
3- هل هو مستعد لاعتبار الأوامر التي تصدر إليه من القيادة في غير معصية (طبعا) قاطعة لا مجال فيها للجدل ولا للتردد، ولا للانتقاص ولا للتحوير، مع إبداء النصيحة والتنبيه إلى الصواب؟
4- هل هو مستعد لأن يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة الصواب، إذا تعارض ما أُمر به مع ما تعلم في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نصٌ شرعي؟
5- هل هو مستعد لوضع ظروفه الحيوية تحت تصرف الدعوة؟ وهل تملك القيادة في نظره حق الترجيح بين مصلحته الخاصة ومصلحة الدعوة العامة؟ وبالإجابة على هذه الأسئلة وأشباهها يستطيع الأخ أن يطمئن على مدى صلته بالقائد، وثقته به، والقلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء )لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم).
الاختبار واجب وضروري !!
وهو ما دلتنا عليه التجارب !! وجولات التدبر في أحوال العباد !! فلابد أن تكون الثقة معلقة بميزان الشرع وأحكامه كما هي معلقة أيضا بضوابط العقل ورشده !! ثم بعد ذلك تجارب القيادات والأفراد واقترابهم من واقع الحكمة !!
والثقة والتي هي ركن ركين من أركان البيعة الدعوية الحركية هي تواصل تاريخي لما أراده الله من عباده قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على" بصيرة أنا ومن اتبعني !!! وهي حصاد التجارب والخبرات والفقه والوعي والثقافة والسير في الأرض ؛ ومن ثم فلا اهتزاز ولا زلازل تؤثر فيمن وعي الأمر وأمسك بتلابيبه !! وهنا نقف متأملين حال هذا الركن العجيب !! ونتأمل ترتيبه المتصاعد بين جملة الأركان إذ هو حصادها جميعا ونتاج النجاح فيها جميعا .. وبه تتأكد نظرية ( الترتيب المقصود !! ) للأركان وهو أحد عبقريات الإمام البنا !! والحركة الإسلامية كلما مرت بمرحلة يستهدفها فيها الظالمون ويتربصون بها نجد أنفسنا في حاجة للتأكيد علي الأركان عامة وركن الثقة علي وجه الخصوص !! ربما لأنه مطمع الظالمين فينا !! فخلخلة الصف وإفقاد القيادة هيبتها وإشاعة الأراجيف عنها هو مطمعهم !! وهو ما سنتحدث عنه تباعا إن شاء الله تعالي !!
أولا- الثقة بالله تعالى
وهي الإيمان القوي، والاعتقاد الجازم، واليقين الثابت، والاطمئنان القلبي بالله وحده، وبقدرته، وقوته وعزته، وحكمته، وأنه جل وعلا هو الحق وما عداه باطل، وأن هداه هو الهدى، وليس بعد الهدى إلا الضلال، وأنه لا ناصر إلا الله، ولا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وأنه من حفظ الله حفظه الله، ومن توكل عليه نصره، وأن كل ما يقدره سبحانه فهو الخير، وأن العاقبة للمتقين، وأنه لا عدوان إلا على الظالمين. والثقة في الله وحده هي الركيزة الأساسية والعمود الأساسي الذي تعتمد عليه الدعوات، وهي عصب النهوض والنجاح في الرسالات. وفي حياتنا المعاصرة نحتاج إلى جرعات إيمانية قوية، وثقة عالية مطلقة بمالك الملك جل جلاله، فإن ما يحدث لأمة الإسلام من أزمات وشدائد، ومن تمزق واختلاف لهو من الأمور الخطيرة، خاصة وقد تعمقت الخلافات، وتشعبت الاتجاهات ووصلت هذه الأمراض إلى صميم حياة الشعوب، فلا برّ ولا تعاطف، ولا تواصي بالحق، ولا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر حتى ظن البعض أن الاعتماد على المخلوق هو العملة الرابحة، فضاعت القيم واشتد البلاء وعظم الأمر. إن رحمات الله عز وجل يجدها من يفتحها الله له في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان.. يجدها في نفسه، وفي مشاعره، ويجدها فيما حوله، وحيثما كان، وكيفما كان. ولو فقد كل شيء مما يعده الناس فقده هو الحرمان.. ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حالة، وفي كل مكان. ولو وجد كل شيء مما يعده الناس علامة الوجدان والرضوان! وما من نعمة -يمسك الله معها رحمته- حتى تنقلب هي بذاتها نقمة. وما من محنة -تحفها رحمة الله- حتى تكون هي بذاتها نعمة.. ينام الإنسان على الشوك -مع رحمة الله- فإذا هو مهاد. وينام على الحرير -وقد أمسكت عنه- فإذا هو شوك القتاد. ولا ضيق مع رحمة الله. إنما الضيق في إمساكها دون سواه. لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب أو في شعاب الهلاك. ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم، وفي مراتع الرخاء. فمن داخل النفس برحمة الله تتفجّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة، ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكد والمعاناة).
التفاؤل نهجنا
المؤمنون بالله لا يعرفون اليأس، وما يدرينا لعل ما ينزل بالعالم الإسلامي فيه الخير الكثير، قد لا يظهر عاجلا ولكنه سيظهر آجلا بإذن الله، ونحن على يقين في أن الله لن يخذل المؤمنين، العاملين، الذين ينصرون دينه، ويبذلون في سبيله، ولا يتأخرون عن بذل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. جاء في الحديث: (والذي نفسي بيده ليفرّجن الله عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت آمنا، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزها في سبيل الله). إن الحق سبحانه وتعالى ميز المؤمنين بصفات وأخلاق ومن أعلاها - بعد الإيمان به - الثقة في وعده ونصر دينه، وهذه الصفة تظهر في الأزمات والشدائد التي تمتحن فيها أصالة الرجال ومعادن الناس، وها هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهو في أعلى درجات الحصار في المدينة، وقد أحاطتها جيوش الكفر التي تكالبت عليها من خارج المدينة، ثم تآمرت اليهود معها في داخل المدينة، ها هو صلى الله عليه وسلم يعد أصحابه في هذه الأهوال، بفتح فارس، والروم واليمن، فحين ضرب بمعوله حجرا عريضا طار منه كهيئة الشهاب من النار، وضرب الثانية فخرج مثل ذلك، وضرب الثالثة فخرج مثل ذلك، فرأى ذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم رأيت ما خرج في كل ضربة ضربتها؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تفتح عليكم بيض المدائن، وقصور الروم، ومدائن اليمن).
المستقبل لهذا الدين
نعم المستقبل لهذا الدين، فالذي يظن غير هذا بعيد عن الصواب، قد ضعف الإيمان في قلبه وتزعزعت ثقته بخالقه الذي قال: )ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين(. وكيف لا يكون النصر لدين الله وهو سبحانه وراء الحق وهو ولي أصحابه )ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم(. إن الحق سبحانه وتعالى لا يقبل من عباده اليأس من رحمته وقدره ونصره، قال تعالى: )من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبنّ كيدُه ما يغيظ(. يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: (من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدا وكتابه ودينه، فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه، فإن الله ناصره ولا محالة). ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء، إلا بالرجاء في نصر الله. ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله. ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله).
وأولى الناس ثقة بالله أنبياء الله:
• سيدنا إبراهيم عليه السلام يترك زوجه وابنه بواد غير ذي زرع.. فتسأله زوجه: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا؟ وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا. • سيدنا موسى عليه السلام يطارده فرعون وجيشه )فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدرَكون، قال كلا إنّ معي ربي سيهدين(. • والنبي محمد صلى الله عليه وسلم محاصر في الغار، يطارده المشركون، وأبو بكر رضي الله عنه يقول: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟
ثانيا- الثقة في المنهاج
أما المنهج فقد رسمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وكلما اشتد الكيد والصد جدد السائرون العهد هاتفين بشعار الموقنين: (فتوكل على الله إنك على الحق المبين)فهو منهج من عند الله ونحن نجزم بأنه الحق المبين على سبيل الإجمال والتعميم تصديقا لقوله تعالى: )والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير(، ونجزم كذلك بأن كل جزئية من هذا المنهج هي حق مبين نتعامل معها بيقين. • أبو الدرداء رضي الله عنه أخبروه يوما باحتراق داره ففاجأهم بقوله: (ما احترق، ما كان الله ليفعل، لكلمات سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، من قالها حين يصبح لم تصبه مصيبة حتى يمسي، ومن قالها حين يمسي لم تصبه مصيبة حتى يصبح). ثم انطلق معهم موقنا، فإذا بالدور قد احترقت، وداره بينها لم يلحقها أذى.
ثالثا- الثقة بالرسول
القائد منذ اليوم الأول الذي تفضل فيه رب العزة، فأنزل تعاليمه على قلب نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه.. وهذه الدعوة تُجابه بالتشكيك بالمنهج والقائد.. • فما أن يعلن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أمر ربه )فاصدع بما تؤمر(، حتى تعلن قريش ومن حازبها كفرهم بما يقول )بل يريد الإنسان ليفجر أمامه(. • ومع استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته.. انعقد مجلس شورى المشركين في مكة، يتفقون على خطة يشككون فيها بالقائد، قالوا: نقول كاهن.. وقال بعضهم: مجنون.. وقالوا: بل نقول شاعر.. أو ساحر.. المهم عندهم أن يشككوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه مرسل من السماء لهداية الأرض. • استخدموا كل الوسائل في محاربة الدعوة والداعية: السخرية منه وتحقيره، وتشويه تعاليمه، وإثارة الشبهات حوله، ومعارضة القرآن بأساطير الأولين، واستخدام بنات الهوى لصد الرجال عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فعلوا ذلك.. فكان جواب القرآن عليهم: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون)• اضطهدوه فصبر، وعذبوا إخوانه عذابا لا تطيقه الجبال فاحتسبوا، وكلهم يردد قولة بلال رضي الله عنه: أحد أحد. • بعث إخوانه إلى الحبشة في جوار ملك عادل، فأرسلوا رسلهم يؤلبون النجاشي عليهم. • هددوا أبا طالب.. وقاطعوا بني هاشم.. وأخيرا قرروا قتل النبي صلى الله عليه وسلم. كانوا يشككون بالمنهج وبالقائد.. لا عن قناعة بأن المنهج خطأ.. ولا بأن رسول الله كذاب.. ولكنه الظلم والجهل والكبر.. لخص الأمر أبو جهل عندما قال: (تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه )فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون(. • وكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حاسما قاطعا مثّله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لعمه: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه). وعبر عن ذلك القرآن الكريم فقال تعالى: (ص. والقرآن ذي الذكر. بل الذين كفروا في عزة وشقاق. كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص. وعجبوا أن جاءهم منذر منهم، وقال الكافرون هذا ساحر كذاب، أجعل الآلهة إلها واحدا، إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، إن هذا إلا اختلاق) لقد كفر المشركون.. منعهم الكبر والجهل والغرور عن الإيمان بالمنهج وبالقائد.. وأما المؤمنون المسلمون عبر العصور فقد آمنوا بالمنهج وآمنوا بالقيادة الإسلامية المتمثلة في النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كل قيادة إسلامية تأتي من بعده تؤمن بهذا المنهج.. وتترسم خطاه. كانت الثلة المؤمنة تثق بقائدها ثقة عظيمة هي جزء من إيمانهم بربهم وبعظمة دعوتهم وسمو قيادتهم..
رابعاً- الثقة بكل قيادة راشدة •
والثقة بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي جزء من العقيدة.. والثقة بكل قيادة إسلامية تتأسى به، وتسير على دربه، وتهدف إلى إقامة الدين في الأرض.. هي السبيل الوحيد إلى النجاح والفلاح. وتزداد الحاجة إلى هذه الصفة إلحاحا في أوقات المحن والابتلاءات، فحين تستعر حرب المبطلين، ويشتد تضييقهم على جند الحق، تخفف الثقة في معية الله وتأييده ونصره، والثقة بالقيادة الراشدة، من شدة الوطأة وألم الصراع، وحين تتوالى محاولات الدس والوقيعة فإن الثقة بين القيادة والجنود هي وحدها التي تحبط هذا الكيد. • لقد اختلف عمر مع أبي بكر رضي الله عنهما في شأن مانعي الزكاة، وكان جل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون رأي عمر في عدم قتالهم، ومع ذلك فإن عمر ما كاد يرى أبا بكر مصرا على قتال مانعي الزكاة حتى قال قولته المعروفة التي تعبر عن ثقة كاملة (فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق). ولو لم يكن عمر على هذا المستوى الكريم من الثقة والطاعة لسولت له نفسه أن الحق معه هو، فقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه). وما أحوجنا نحن أن نتذكر ذلك إذا اختلف رأينا مع أننا لم نسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن أحد منا أن الله جعل الحق على لسانه أو قلبه. • وقد رأينا هذه الثقة في موقف خالد بن الوليد مع الخليفة عمر رضي الله عنهما إذ بدا لعمر أن يعزل خالدا، وهو في أوج انتصاره إبان فتح الشام حفاظا على قلوب المسلمين من الفتنة بخالد الذي لم يذق طعم الهزيمة قط في جاهلية ولا في إسلام، وتأكيدا على الحقيقة الإيمانية الثابتة: )وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم(، وقد كان أمر العزل هذا شديد الوطأة على خالد رضي الله عنه، ومع هذا تظهر جنديته المدهشة فيمتثل الأمر توا، وتزداد دهشتنا حين قيل له، وهو في هذا الموقف العصيب (صبرا أيها الأمير، فإنها الفتنة)، فيرد مؤكدا ثقته المطلقة في قائده عمر: (أما وابن الخطاب حي فلا). إن من أخطر الوسائل التي يلجأ لها العدو الماكر (وهو يحارب الدعوة)، أن يضربها من داخلها، وخير ما يعينه على ذلك فقدان الثقة بين الجند والقائد، فإذا فقدت الثقة، اهتز في نفوسهم معنى الطاعة، وإذا فقدت لم تعد هناك قيادة ولا جماعة. وليحذر الأخوة -أبناء الدعوة- مما يوسوس لهم الشيطان، فيظنون أن التصدي للقيادة، والتشهير بها وبقراراتها، دليل على مقامهم وعمق فهمهم.. فقد استخدمهم الشيطان في تفريق الصف عن وعي منهم أو بدون وعي..
ويقول أيضا رحمه الله:" أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم: اسمعوها مني كلمةً عاليةً داويةً من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع: إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده. ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقاً طويلةً ولكن ليس هناك غيرها. إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرةً قبل نضجها أو يقتطف زهرةً قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات. ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك علي الله، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين: إما النصر والسيادة، وإما الشهادة والسعادة." [رسالة المؤتمر الخامس]
وبذلك بث الإمام في أجيال الدعاة جيلا بعد جيل ثقة راسخة في المنهج، فلا تزعزع قناعة الداعية مقولة متشكك أو صيحة متهور، بل هو مستغرق في عمله الدعوي ويعلم علم اليقين أن عمله هذا هو لبنة في صرح الدعوة الشامخ! فهو ينشيء شبلا أو يربي طالبا أو يجهز رسالة دعوية أو يوزع مجلة وعينه على إقامة الخلافة وأستاذية العالم، وبغير هذا الشبل أو هذا الطالب أو هذه المجلة فلن تقوم خلافة ولن تعود سيادة! إنها ثقة في المنهج تقطع الطريق على كل حاقد يثير الشبهات وتوصد الباب أمام كل عدو يريد بلبلة الأفكار أوجاهل يثير زوبعة في الأدمغة! ولئن كانت الثقة في المنهج والفكرة ملمح من ملامح ركن الثقة، فإن لهذا الركن أيها الأخ المبايع: ملمحين أخرين هما الثقة في كفاءة القيادة، والثقة في إخلاص القيادة. فأما الثقة في إخلاص القيادة، فأصلها الشرعي القاعدة الشرعية " حسن الظن بكل مسلم"، وفي الحديث"إن حسن الظن من حسن العبادة" [رواه أحمد] فإذا كان المنوط بكل مسلم أن يحسن الظن بكل مسلم، فإنه أوجب على الداعية أن يحسن الظن في رفاق الدرب إخوة الصف ، وأوجب من ذلك أن يحسن الظن في قيادات الدعوة ومسؤولي العمل. وأما نزغ الشيطان وهوى النفس في سوء الظن فهذا مما نهى عنه رب السموات والأرض في جملة المحرمات التي ذكرها الله في سورة الحجرات،،"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثم..." [12
] وفي الحديث" إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث" [البخاري] ويهمس بها الفاروق رضي الله عنه في أذن من مسه طائف من الشيطان فتخرص وأساء الظن وصدق شائعة من هنا أو هناك ،،" لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا ، وأنت تجد لها في الخير محملا ً" وأما الثقة في كفاءة القيادة،،، فهي تنبع أصلا من الثقة في كيان الدعوة ككل، فيطمئن الداعية أن الكيان الدعوي قد اختار الرجل المناسب في المكان المناسب، وأن الدعوة قد وظفت الأصلح لهذه المهمة لاعتبارات كفاءته وخبرته. فإذا وثق الداعية في إخلاص القيادة، فإنه يطمئن أن القيادة لاتحابي في اختيار المسؤولين وإنما تضع نصب عينيها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم " ما من عبد يسترعيه الله رعية ، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته ، إلا حرم الله عليه الجنة" [مسلم]